vendredi 22 juillet 2011

الحَجَّاجُ بنُ يُوْسُفَ الثَّقَفِيُّ فِي مِيزانِ أهلِ السنةِ والجماعةِ

الحجاج بن يوسف الثقفي

الحَجَّاجُ بنُ يُوْسُفَ الثَّقَفِيُّ فِي مِيزانِ أهلِ السنةِ والجماعةِ

قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةً في " الفتاوي " (3/278) : وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَتَّبِعُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَيَتَّبِعُونَ الْحَقَّ وَيَرْحَمُونَ الْخَلْقَ .ا.هـ.
الحمدُ للهِ وبعدُ ؛

الحَجَّاجُ بنُ يُوْسُفَ الثَّقَفِيُّ اسمٌ معروفٌ في تاريخِ الأمةِ الإسلاميةِ ، اسمٌ اقترنَ بسفكِ الدمِ والبطشِ والجبروتِ ، اسمٌ لا يكادُ كتابٌ من كتبِ التاريخِ إلا ولهُ فيه ذكرٌ ، ولكن هل للرجلِ حسناتٌ تذكرُ في بحرِ ذنوبهِ ؟

يجيبُ الإمامُ الذهبي في " السير " (4/344) فيقولُ في ترجمتهِ :

وَكَانَ ظَلُوْماً ، جَبَّاراً ، نَاصِبِيّاً ، خَبِيْثاً ، سَفَّاكاً لِلدِّمَاءِ ، وَكَانَ ذَا شَجَاعَةٍ ، وَإِقْدَامٍ ، وَمَكْرٍ ، وَدَهَاءٍ ، وَفَصَاحَةٍ ، وَبَلاَغَةٍ ، وَتعَظِيْمٍ لِلْقُرَآنِ ... وَلَهُ حَسَنَاتٌ مَغْمُوْرَةٌ فِي بَحْرِ ذُنُوْبِهِ ، وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ ، وَلَهُ تَوْحِيْدٌ فِي الجُمْلَةِ ، وَنُظَرَاءُ مِنْ ظَلَمَةِ الجَبَابِرَةِ وَالأُمَرَاءِ .ا.هـ.

فانظروا كيف ينصفُ أهلُ السنةِ أمثالَ الحجاجِ ؟ ويكلون أمرهُ إلى اللهِ ؟ للهِ درك أيها الإمامُ الذهبي .
وقد كثرُ الكلامُ في هذهِ الأيامِ المباركةِ من شهرِ رمضان عن الحجاجِ ، فمن مسلسلٍ يبثُ في بعضِ القنواتِ الفضائيةِ عن سيرتهِ ، ويقومُ بالتمثيلِ للمسلسلِ سقطُ المتاعِ من أهلِ الفسقِ والمجونِ ، ويقومون بتشويهٍ لصورةِ التاريخِ الإسلامي لدولةِ بني أميةَ من خلالِ سيرةِ الحجاجِ بن يوسف ، إلى جانبِ تمثيلِ الصحابةِ مثل عبد الله بن الزبير وأسماء بنت أبي بكر ، وهذا - واللهِ - منتهى السخف ، وكما يعلمُ الجميعُ أن العلماءَ قد منعوا من تمثيلِ أدوار الصحابةِ في هذه المسلسلات التي يقومُ بها الفسقةُ والماجنين ، وحتى لو قام بهذه ألأدوار أهلُ الصلاحِ والاستقامةِ فإنه لا يقبلُ منهم لأمور عدةٍ لا مجال لذكرها هنا .

وتقومُ أيضاً " قناةُ المستقلةِ " بإلقاءِ الضوءِ على سيرةِ الحجاجِ من خلالِ استضافةِ الرافضي والعلماني والبعثي والزيدي ، وهذه مهزلةٌ لم يسبق لها نظيرٌ ، فكيف يعرفُ تاريخُ الحجاجِ من هؤلاءِ الزنادقةِ ؟!
ولماذا يركزُ على الحجاجِ ؟ فقد وجد في تاريخِ الأممِ من هو أشدُ من الحجاجِ. أين أنتم من هولاكو ؟ أين أنتم من ستالين ؟ أين أنتم من هتلر ؟ وأين أنتم ... ؟ وأين أنتم .... ؟ وسلسلة لا تنتهي. وفي مقالي هذا أريدُ أن ألقي الضوءَ على سيرةِ الحجاجِ بنِ يوسف من خلالِ منظارِ أهل السنةِ والجماعةِ ، لا من خلالِ التاريخِ الذي دخل فيه التشيعُ ، ولا من خلالِ النظرةِ الحاقدةِ على تاريخِ بني أميةَ من قبل الرافضةِ والزيديةِ . وأسألُ اللهَ أن يجعلَ في مقالي هذا النفعَ والفائدةَ ، ومن كان لهُ تعقيبٌ أو إضافةٌ فلا يبخل بها علينا هنا ، وله مني الشكرُ ، ومن اللهِ الأجرُ .
• من هو " المُبِيرٌُ " الذي ورد ذكرهُ في الحديثِ ؟
‏عَنْ ‏‏أَبِي نَوْفَلٍ :‏ ‏رَأَيْتُ ‏عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ ‏عَلَى عَقَبَةِ ‏الْمَدِينَةِ ‏‏قَالَ : فَجَعَلَتْ ‏‏قُرَيْشٌ ‏‏تَمُرُّ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ ‏عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ‏‏فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ ‏‏أَبَا خُبَيْبٍ ، ‏‏السَّلَامُ عَلَيْكَ ‏‏أَبَا خُبَيْبٍ ،‏ ‏السَّلَامُ عَلَيْكَ ‏‏أَبَا خُبَيْبٍ ‏، ‏أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ ‏‏أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ ‏‏أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ ‏‏أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا ، أَمَا وَاللَّهِ إِنْ كُنْتَ مَا عَلِمْتُ صَوَّامًا ،‏ ‏قَوَّامًا ،‏ ‏وَصُولًا لِلرَّحِمِ ، أَمَا وَاللَّهِ لَأُمَّةٌ أَنْتَ أَشَرُّهَا لَأُمَّةٌ خَيْرٌ ، ثُمَّ نَفَذَ ‏عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ،‏ ‏فَبَلَغَ ‏‏الْحَجَّاجَ ‏ ‏مَوْقِفُ ‏عَبْدِ اللَّهِ ،‏ ‏وَقَوْلُهُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأُنْزِلَ عَنْ جِذْعِهِ فَأُلْقِيَ فِي قُبُورِ ‏ ‏الْيَهُودِ ‏، ‏ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُمِّهِ ‏‏أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ ‏؛ ‏فَأَبَتْ أَنْ تَأْتِيَهُ ؛ فَأَعَادَ عَلَيْهَاالرَّسُولَ : لَتَأْتِيَنِّي أَوْ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكِ مَنْ يَسْحَبُكِ بِقُرُونِكِ ، قَالَ : فَأَبَتْ ؛ وَقَالَتْ : وَاللَّهِ لَا آتِيكَ حَتَّى تَبْعَثَ إِلَيَّ مَنْ يَسْحَبُنِي بِقُرُونِي ، قَالَ ، فَقَالَ : أَرُونِي سِبْتَيَّ فَأَخَذَ نَعْلَيْهِ ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَتَوَذَّفُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ : كَيْفَ رَأَيْتِنِي صَنَعْتُ بِعَدُوِّ اللَّهِ ، قَالَتْ : رَأَيْتُكَ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ ، وَأَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ لَهُ : يَا ابْنَ ‏ ‏ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ ‏، ‏أَنَا وَاللَّهِ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ .‏ ‏أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكُنْتُ أَرْفَعُ بِهِ طَعَامَ رَسُولِ اللَّهِ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏، ‏وَطَعَامَ ‏أَبِي بَكْرٍ ‏ ‏مِنْ الدَّوَابِّ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَنِطَاقُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا ‏تَسْتَغْنِي عَنْهُ أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏حَدَّثَنَا ‏‏أَنَّ فِي ‏ ‏ثَقِيفٍ ‏ ‏كَذَّابًا وَمُبِيرًا ؛ فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا ‏‏إِخَالُكَ ‏‏إِلَّا إِيَّاهُ قَالَ : فَقَامَ عَنْهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا .
رواهُ مسلمٌ . " وَمُبِيرٌ " ‏: ‏أَيْ مُهْلِكٌ يُسْرِفُ فِي إِهْلَاكِ النَّاسِ يُقَالُ : بَارَ الرَّجُلُ يَبُورُ بَوْرًا . فَهُوَ بَائِرٌ , وَأَبَارَ غَيْرَهُ , فَهُوَ مُبِيرٌ وَهُوَ الْحَجَّاجُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي الْإِهْلَاكِ مِثْلَهُ .
• فوائدُ من القصةِ :
سأنقلُ بعضَ تعليقاتِ الإمامِ النووي على القصةِ من " شرح مسلم "
.
1 - قولُ ابنِ عمرَ : ‏أَبَا خُبَيْبٍ . قال الإمامُ النووي في " شرح مسلم " : ‏بِضَمِّ الْخَاء الْمُعْجَمَة كُنْيَة اِبْن الزُّبَيْر , كُنِّيَ بِابْنِهِ خُبَيْب , وَكَانَ أَكْبَر أَوْلَاده , وَلَهُ ثَلَاث كُنًى ذَكَرَهَا الْبُخَارِيّ فِي التَّارِيخ وَآخَرُونَ : أَبُو خُبَيْب , وَأَبُو بَكْر , وَأَبُو بُكَيْرٍ .ا.هـ.
2 - فِيهِ اِسْتِحْبَاب السَّلَام عَلَى الْمَيِّت فِي قَبْره وَغَيْره , تَكْرِير السَّلَام ثَلَاثًا كَمَا كَرَّرَ اِبْن عُمَر .ا.هـ.
3 - وَفِيهِ الثَّنَاء عَلَى الْمَوْتَى بِجَمِيلِ صِفَاتهمْ الْمَعْرُوفَة .ا.هـ.
4 - وَفِيهِ مَنْقَبَة لِابْنِ عُمَر لِقَوْلِهِ بِالْحَقِّ فِي الْمَلَأ , وَعَدَم اِكْتِرَاثه بِالْحَجَّاجِ ; لِأَنَّهُ يَعْلَم أَنَّهُ يَبْلُغهُ مَقَامه عَلَيْهِ , وَقَوْله , وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ , فَلَمْ يَمْنَعهُ ذَلِكَ أَنْ يَقُول الْحَقّ , يَشْهَد لِابْنِ الزُّبَيْر بِمَا يَعْلَمهُ فِيهِ مِنْ الْخَيْر , وَبُطْلَان مَا أَشَاعَ عَنْهُ الْحَجَّاج مِنْ قَوْله : إِنَّهُ عَدُوّ اللَّه , وَظَالِم , وَنَحْوه , فَأَرَادَ اِبْن عُمَر بَرَاءَة اِبْن الزُّبَيْر مِنْ ذَلِكَ الَّذِي نَسَبَهُ إِلَيْهِ الْحَجَّاج , وَأَعْلَم النَّاس بِمَحَاسِنِهِ , وَأَنَّهُ ضِدّ مَا قَالَهُ الْحَجَّاج .ا.هـ.
5 - وَصُولًا لِلرَّحِمِ : وَهُوَ الْمَعْرُوف مِنْ أَحْوَاله .ا.هـ.
6 - وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْكَذَّابِ هُنَا الْمُخْتَار بْن أَبِي عُبَيْد , وَبِالْمُبِيرِ الْحَجَّاج بْن يُوسُف . وَاَللَّه أَعْلَم .ا.هـ.
• الحَجَّاجُ بنُ يُوْسُفَ الثَّقَفِيُّ عذابُ اللهِ :
قال عنه الحسن البصري : إن الحجاجَ عذابُ اللهِ ، فلا تدفعوا عذابَ اللهِ بأيديكم ، و لكن عليكم بالاستكانةِ والتضرعِ ، فإنه تعالى يقول : " وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ " [ المؤمنون :76] .
الطبقات لابن سعد (7/164) بإسناد صحيح .
وبعد هذه النصوصِ في بيانِ بطشِ الحجاجِ وجبروتهِ ، سؤالٌ يطرحُ :
هل كلُ ما قيل عن الحجاجِ صحيحٌ ؟ أم أن فيهِ بعضُ التحاملِ على الرجلِ مما بالغت فيه بعضُ الطوائفِ والفرقِ ؟
يجيبُ الإمامُ ابنُ كثيرٍ - وهو من هو في التاريخِ ؟؟ ويكفيك كتاب " البدايةِ والنهايةِ " لتعلمَ مدى معرفة الرجلِ بالتاريخِ - فيقول : وقد تقدم الحديث : " إن في ثقيف كذاباً ومبيراً " وكان المختار هو الكذاب المذكور في هذا الحديث ، وقد كان يظهر الرفض أولاً ويبطن الكفر المحض ، وأما المبير فهو الحجاج بن يوسف هذا ، وقد كان ناصبياً يبغض علياً وشيعته في هوى آل مروان بني أمية ، وكان جباراً عنيداً ، مقداماً على سفك الدماء بأدنى شبهة . وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنيعة ظاهرها الكفر كما قدمنا ، فإن كان قد تاب منها وأقلع عنها ، وإلا فهو باق في عهدتها ، ولكن قد يخشى أنها رويت عنه بنوع من زيادة عليه ، فإن الشيعة كانوا يبغضونه جداً لوجوه ، وربما حرفوا عليه بعض الكلم ، وزادوا فيما يحكونه عنه بشاعات وشناعات . وقد روينا عنه أنه كان يتدين بترك المسكر ، وكان يكثر تلاوة القرآن ، ويتجنب المحارم ولم يشتهر عنه شيء من التلطخ بالفروج ، وإن كان متسرعاً في سفك الدماء ، فالله تعالى أعلم بالصواب وحقائق الأمور وساترها ، وخفيات الصدور وضمائرها .
قلت : الحجاج أعظم ما نقم عليه وصح من أفعاله سفك الدماء ، وكفى به عقوبة عند الله عز وجل ، وقد كان حريصاً على الجهاد وفتح البلاد ، وكان فيه سماحة بإعطاء المال لأهل القرآن ، فكان يعطي على القرآن كثيراً ، ولما مات لم يترك فيما قيل إلا ثلثمائة درهم ، والله أعلم .ا.هـ.
وأترككم مع كلامٍ كتبهُ الأخ الفاضلُ أبو عبد الله الذهبي عن الحجاجِ بنِ يوسف في جوابٍ عن الحجاجِ :
إن من أكثر الشخصيات التي لم تنل حقها في البحث والدراسة شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي .. لقد كان لهذه الشخصية المكان والمرتع الخصب لأصحاب الشهوات و أهل الأهواء للطعن في العصر الأموي بوصفه عصر سفك للدماء و تسلط للأمراء .. و لقد كان لشخص الحجاج النصيب الأوفر من هذه التهم .. فالحجاج كان ضحية المؤرخين الذين افتروا عليه شتى المفتريات تمشياً مع روح العصر الذي يكتبون فيه ؛ ونرى أننا كلما بعدنا عن عصر الحجاج كثرت المفتريات والأباطيل .. و من الإنصاف أن يسجل المؤرخ لمن يؤرخ له ما أصاب فيه بمثل ما يسجل عليه ما أخطأ فيه .. واضعاً قول الله تعالى { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى } نصب عينيه . فإن الحجاج قد شوهت صورته و نسجت حولها الخرافات بشكل يجعلها أقرب إلى الأسطورة من الحقيقة .. نعم كان الحجاج كما قال عنه الحسن البصري : إن الحجاج عذاب الله ، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم ، و لكن عليكم بالاستكانة والتضرع ، فإنه تعالى يقول { ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون }[المؤمنون /76] . الطبقات لابن سعد (7/164) بإسناد صحيح . فالحجاج كان من الولاة الذين اشتهروا بالظلم والقسوة في المعاملة ، و هي شدة كان للظروف التي تولى فيها هي السبب الرئيسي في أن يكون بهذه الصفة ..
فثورات الخوارج المتتالية والتي أنهكت الدولة الأموية .. و الفتن الداخلية .. كان للحجاج الفضل بعد الله في القضاء عليها ، و هذه لا ينكرها أحد حتى الأعداء .. و لا ننسى ثورة ابن الأشعث التي كادت أن تلغي و تقضي على الخلافة الإسلامية .. و مع هذا نقول : ليس كل ما يشاع عن شخص قد ثبت فعلاً .. و ليس كل ما هو مشهور معروف .. فكم سمعنا و قرأنا أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كانت تنصح الخارجين بالثورة على عثمان و قتله !! فهل نصدق هذا ، و كم سمعنا أن عثمان رضي الله عنه قد استحدث أموراً خرج بسببها من الإسلام !! فهل نصدق هذه أيضاً .. و كذلك ما اشتهر من أن عمر رضي الله عنه أمر بقتل الستة الذين اختارهم ليكون أحدهم خليفة من بعده إن تخلف أحدهم تضرب عنقه !! و هكذا ..
فليس كل ما هو مشهور صحيح .. و إني لأستغرب من قولك بأن المناظرة التي حدثت بين طالب العلم و ذلك الشيخ ، لم تنتهي على اتفاق بل و قولك بأن طالب العلم يصر على أنه إذا جمع أخبث الخبثاء .. الخ . و استدلاله به على صحة ما أشيع عن الحجاج ..
أقول : هل ثبت كفر الحجاج حتى نقارن بينه و بين الخبثاء من الأمم السابقة ؟!
و الله تعالى يقول { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } !! و المؤمن خير من ملئ الأرض من الكافر فكيف تكون هناك مقارنة .. وعلى فرض ثبوت صحة ما أشيع حول الحجاج - ولا ننكر بعضها - فهل يعني هذا أنه قد خرج بموجبها من دائرة الإيمان ؟؟!!
لقد ثبتت للحجاج سيئات كثيرة جعلته في نظر الناس من الذين لا يمكن أن يغفر الله لهم .. سبحان الله !! هل جعلنا الله موكلين بتصنيف الناس هذا مغفور له و هذا مغضوب عليه ؟! فهل نسي هذا الطالب أن فتح بلاد السند و ما وراء النهر قد تم بعد فضل الله تعالى على يد أبطال قد أرسلهم الحجاج من أجل نشر الإسلام في تلك المناطق .. و ما يدريك لعل الله أراد أن يجعل له باباً آخر للأجر و تكون أعمال أولئك القوم الذين دخلوا في الإسلام في ميزان حسنات الحجاج .. إن الله على كل شيء قدير فلا نحجر واسعاً .. واسمع إلى ما ورد عن الحجاج حول موته .. وكما يستدلون بالصورة السيئة حول شخصه .. فإنه قد ثبتت كذلك صورة حسنة أيضاً .. أن الحجاج عندما اشتدت عليه العلة عمل على تدبير شؤون العراق من بعده بما يحفظه من الاضطراب والفتن ، و يبقيه جزءً من الدولة الأموية ، حتى إذا اطمأن إلى ذلك كتب وصيته ليبرئ فيها نفسه و ذمته تجاه خالقه وخليفته المسؤول أمامه في الدنيا حتى آخر لحظة من حياته ، فكتب يقول :
بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصى به الحجاج بن يوسف : أوصى بأنه يشهد أن لا إليه إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده و رسوله ، وأنه لا يعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك ، عليها يحيا و عليها يموت و عليها يبعث .. الخ . تهذيب تاريخ دمشق (4/68 ) .
و يروى أنه قيل له قبل وفاته : ألا تتوب ؟ فقال : إن كنت مسيئاً فليست هذه ساعة التوبة ، وإن كنت محسناً فليست ساعة الفزع . محاضرات الأدباء (4/495 ) . و قد ورد أيضاً أنه دعا فقال : اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل . تاريخ دمشق (4/82) . والبداية والنهاية (9/138) . ونقول للذين يطعنون في نيات الناس اسمعوا إلى قول الحسن رحمه الله حينما سمع أحد جلاسه يسب الحجاج بعد وفاته ، فأقبل مغضباً و قال : يا ابن أخي فقد مضى الحجاج إلى ربه ، و إنك حين تقدم على الله ستجد إن أحقر ذنبٍ ارتكبته في الدنيا أشد على نفسك من أعظم ذنبٍ اجترحه الحجاج ، و لكل منكما يومئذٍ شأن يغنيه ، و اعلم يا ابن أخي أن الله عز وجل سوف يقتص من الحجاج لمن ظلمهم ، كما سيقتص للحجاج ممن ظلموه فلا تشغلن نفسك بعد اليوم بسب أحد . ذكره أبو نعيم في الحلية (2/271) . والله أعلم ..
أما عن الدراسات التي كتبت عن الحجاج فقد قدمت عدد من الرسائل الجامعية في دراسة شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي و منجزاته الحضارية و أعماله .. و ذلك من أجل إظهار الصورة الأخرى التي كادت أن تنمحي من الوجود بسبب ما اشتهر عنه من أباطيل ..
فمن الدراسات كتاب بعنوان : ( الحجاج بن يوسف الثقفي المفترى عليه ) للدكتور : محمود زيادة .
و كذلك كتاب آخر بنفس العنوان تقريباً للدكتور إحسان صدقي العمد .. و هما من أفضل ما كتب عن الحجاج .. و أيضاً هناك رسائل أخرى صغيرة تتحدث كذلك عن بعض ما أشيع حول الحجاج .. أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..
• قصةٌ منكرةٌ :
عُرف الحجاجُ كما ذكرنا سابقاً بأنهُ سفاكٌ للدماءِ ، ومن أشهرِ من قُتل بين يديهِ العالمُ النحريرُ سعيدُ بنُ حبير ، وقد وردت قصةٌ منكرةٌ في طريقةِ قتلِ الحجاجِ لسعيدِ بنِ جبير ، تذكرُ في ترجمةِ الحجاجِ ، وهذا لا يعني أن الحجاجَ لم يقتل سعيدَ بنَ جبير ، وإنما إيرادُ القصةِ بهذا السياقِ هو الذي ينكرُ فيها ، وإليكم القصة كما ذكرها الحافظُ الذهبي في " السير " (4/329 - 332) :
حَامِدُ بنُ يَحْيَى البَلْخِيُّ : حَدَّثَنَا حَفْصٌ أَبُو مُقَاتِلٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ ، حَدَّثَنَا عَوْنُ بنُ أَبِي شَدَّادٍ : بَلَغَنِي أَنَّ الحَجَّاجَ لَمَّا ذُكِرَ لَهُ سَعِيْدُ بنُ جُبَيْرٍ ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ قَائِداً يُسَمَّى المُتَلَمِّسَ بنَ أَحْوَصَ فِي عِشْرِيْنَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَطْلُبُوْنَهُ ، إِذَا هُمْ برَاهِبٍ فِي صَوْمَعَتِهِ ، فَسَأَلُوْهُ عَنْهُ ؟ فَقَالَ: صِفُوْهُ لِي . فَوَصَفُوْهُ ، فَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ ، فَانْطَلقُوا ، فَوَجَدُوْهُ سَاجِداً يُنَاجِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ ، فَدَنَوْا ، وَسَلَّمُوا ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ ، فَأَتَمَّ بَقِيَّةَ صَلاَتِهِ ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ ، فَقَالُوا : إِنَّا رُسُلُ الحَجَّاجِ إِلَيْكَ ، فَأَجِبْهُ . قَالَ : وَلاَ بُدَّ مِنَ الإِجَابَةِ ؟ قَالُوا : لاَ بُدَّ . فَحَمِدَ اللهَ ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، وَقَامَ مَعَهُم ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى دَيْرِ الرَّاهِبِ ، فَقَالَ الرَّاهِبُ : يَا مَعْشَرَ الفُرْسَانِ أَصَبْتُمْ صَاحِبَكُم ؟ قَالُوا : نَعَمْ . فَقَالَ : اصْعَدُوا ، فَإِنَّ اللَّبْوَةَ وَالأَسَدَ يَأْوِيَانِ حَوْلَ الدَّيْرِ . فَفَعَلُوا ، وَأَبَى سَعِيْدٌ أَنْ يَدْخُلَ ، فَقَالُوا : مَا نَرَاكَ إِلاَّ وَأَنْتَ تُرِيْدُ الهَرَبَ مِنَّا . قَالَ: لاَ ، وَلَكِنْ لاَ أَدْخُلُ مَنْزِلَ مُشْرِكٍ أَبَداً . قَالُوا : فَإِنَّا لاَ نَدَعُكَ ، فَإِنَّ السِّبَاعَ تَقْتُلُكَ . قَالَ : لاَ ضَيْرَ، إِنَّ مَعِيَ رَبِّي يَصْرِفُهَا عَنِّي ، وَيَجْعَلُهَا حَرَساً تَحْرُسُنِي . قَالُوا : فَأَنْتَ مِنَ الأَنْبِيَاءِ ؟ قَالَ : مَا أَنَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ، وَلَكِنْ عَبْدٌ مِنْ عَبِيْدِ اللهِ مُذْنِبٌ . قَالَ الرَّاهِبُ : فَلْيُعْطِنِي مَا أَثِقُ بِهِ عَلَى طُمَأْنِيْنَةٍ . فَعَرَضُوا عَلَى سَعِيْدٍ أَنْ يُعْطِيَ الرَّاهِبَ مَا يُرِيْدُ . قَالَ : إِنِّي أُعْطِي العَظِيْمَ الَّذِي لاَ شَرِيْكَ لَهُ ، لاَ أَبْرَحُ مَكَانِي حَتَّى أُصْبِحَ - إِنْ شَاءَ اللهُ - . فَرَضِيَ الرَّاهِبُ بِذَلِكَ ، فَقَالَ لَهُم : اصْعَدُوا ، وَأَوْتِرُوا القِسِّيَّ ، لِتُنَفِّرُوا السِّبَاعَ عَنْ هَذَا العَبْدِ الصَّالِحِ ، فَإِنَّهُ كَرِهَ الدُّخُوْلَ فِي الصَّوْمَعَةِ لِمَكَانِكُمْ . فَلَمَّا صَعِدُوا ، وَأَوْتَرُوا القِسِّيَّ ، إِذَا هُمْ بِلَبْوَةٍ قَدْ أَقْبَلَتْ ، فَلَمَّا دَنَتْ مِنْ سَعِيْدٍ ، تَحَكَّكَتْ بِهِ ، وَتَمَسَّحَتْ بِهِ ، ثُمَّ رَبَضَتْ قَرِيْباً مِنْهُ ، وَأَقْبَلَ الأَسَدُ يَصْنَعُ كَذَلِكَ . فَلَمَّا رَأَى الرَّاهِبُ ذَلِكَ ، وَأَصْبَحُوا ، نَزَلَ إِلَيْهِ ، فَسَأَلَهُ عَنْ شَرَائِعِ دِيْنِهِ ، وَسُنَنِ رَسُوْلِهِ ، فَفَسَّرَ لَهُ سَعِيْدٌ ذَلِكَ كُلَّهُ ، فَأَسْلَمَ ، وَأَقْبَلَ القَوْمُ عَلَى سَعِيْدٍ يَعْتَذِرُوْنَ إِلَيْهِ ، وَيُقَبِّلُوْنَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ، وَيَأْخُذُوْنَ التُّرَابَ الَّذِي وَطِئَهُ ، فَيَقُوْلُوْنَ : يَا سَعِيْدُ ، حَلَّفَنَا الحَجَّاجُ بِالطَّلاَقِ وَالعَتَاقِ ، إِنْ نَحْنُ رَأَيْنَاكَ لاَ نَدَعُكَ حَتَّى نُشْخِصَكَ إِلَيْهِ ، فَمُرْنَا بِمَا شِئْتَ . قَالَ : امْضُوا لأَمْرِكُم ، فَإِنِّي لاَئِذٌ بِخَالِقِي ، وَلاَ رَادَّ لِقَضَائِهِ . فَسَارُوا حَتَّى بَلَغُوا وَاسِطَ ، فَقَالَ سَعِيْدٌ : قَدْ تَحَرَّمْتُ بِكُم وَصَحِبْتُكُم ، وَلَسْتُ أَشُكُّ أَنَّ أَجَلِي قَدْ حَضَرَ ، فَدَعُوْنِي اللَّيْلَةَ آخُذْ أُهْبَةَ المَوْتِ ، وَأَسْتَعِدَّ لِمُنْكَرٍ وَنَكِيْرٍ ، وَأَذْكُرْ عَذَابَ القَبْرِ ، فَإِذَا أَصْبَحْتُم ، فَالمِيْعَادُ بَيْنَنَا المَكَانُ الَّذِي تُرِيْدُوْنَ . فَقَالَ بَعْضُهُم : لاَ تُرِيْدُوْنَ أَثَراً بَعْد عَيْنٍ .وَقَالَ بَعْضُهُم : قَدْ بَلَغْتُم أَمْنَكُم ، وَاسْتَوْجَبْتُم جَوَائِزَ الأَمِيْرِ ، فَلاَ تَعْجَزُوا عَنْهُ . وَقَالَ بَعْضُهُم : يُعْطِيْكُم مَا أَعْطَى الرَّاهِبَ ، وَيْلَكُم ! أَمَا لَكُم عِبْرَةٌ بِالأَسَدِ . وَنَظَرُوا إِلَى سَعِيْدٍ قَدْ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ ، وَشَعِثَ رَأْسُهُ ، وَاغْبَرَّ لَوْنُهُ ، وَلَمْ يَأْكُلْ ، وَلَمْ يَشْرَبْ ، وَلَمْ يَضْحَكْ مُنْذُ يَوْمِ لَقُوْهُ وَصَحِبُوْهُ ، فَقَالُوا : يَا خَيْرَ أَهْلِ الأَرْضِ ، لَيْتَنَا لَمْ نَعْرِفْكَ ، وَلَمْ نُسَرَّحْ إِلَيْكَ ، الوَيْلُ لَنَا وَيْلاً طَوِيْلاً ، كَيْفَ ابْتُلِيْنَا بِكَ ! اعْذُرْنَا عِنْدَ خَالِقِنَا يَوْمَ الحَشْرِ الأَكْبَرِ ، فَإِنَّهُ القَاضِي الأَكْبَرُ ، وَالعَدْلُ الَّذِي لاَ يَجُوْرُ . قَالَ : مَا أَعْذَرَنِي لَكُم وَأَرْضَانِي لِمَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِ اللهِ فِيَّ . فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ البُكَاءِ وَالمُجَاوَبَةِ ، قَالَ كَفِيْلُهُ : أَسْأَلُكَ بِاللهِ لَمَا زَوَّدْتَنَا مِنْ دُعَائِكَ وَكَلاَمِكَ ، فَإِنَّا لَنْ نَلْقَى مِثْلَكَ أَبَداً . فَفَعَلَ ذَلِكَ ، فَخَلَّوْا سَبِيْلَهُ ، فَغَسَلَ رَأْسَهُ وَمِدْرَعَتَهُ وَكِسَاءهُ ، وَهُم مُحْتَفُوْنَ اللَّيْلَ كُلَّهُ ، يُنَادُوْنَ بِالوَيْلِ وَاللَّهْفِ . فَلَمَّا انْشَقَّ عَمُوْدُ الصُّبْحِ ، جَاءهُم سَعِيْدٌ ، فَقَرَعَ البَابَ ، فَنَزَلُوا ، وَبَكَوْا مَعَهُ ، وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى الحَجَّاجِ ، وَآخَرَ مَعَهُ ، فَدَخَلاَ ، فَقَالَ الحَجَّاجُ : أَتَيْتُمُوْنِي بِسَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، وَعَايَنَّا مِنَّا العَجَبَ . فَصَرَفَ بِوَجْهِهِ عَنْهُم ، فَقَالَ : أَدْخِلُوْهُ عَلَيَّ . فَخَرَجَ المُتَلَمِّسُ ، فَقَالَ لِسَعِيْدٍ : أَسْتَوْدِعُكَ اللهَ ، وَأَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلاَمَ . فَأُدْخِلَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ: مَا اسْمُكَ ؟ قَالَ: سَعِيْدُ بنُ جُبَيْرٍ . قَالَ : أَنْتَ شَقِيُّ بنُ كُسَيْرٍ . قَالَ : بَلْ أُمِّي كَانَتْ أَعْلَمَ بِاسْمِي مِنْكَ . قَالَ : شَقِيْتَ أَنْتَ ، وَشَقِيَتْ أُمُّكَ . قَالَ : الغَيْبُ يَعْلَمُهُ غَيْرُكَ . قَالَ : لأُبْدِلَنَّكَ بِالدُّنْيَا نَاراً تَلَظَّى . قَالَ : لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ ذَلِكَ بِيَدِكَ لاتَّخَذْتُكَ إِلَهاً . قَالَ : فَمَا قَوْلُكَ فِي مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ قَالَ : نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ، إِمَامُ الهُدَى . قَالَ : فَمَا قَوْلُكَ فِي عَلِيٍّ ، فِي الجَنَّةِ هُوَ أَمْ فِي النَّارِ ؟ قَالَ : لَوْ دَخَلْتُهَا ، فَرَأَيْتُ أَهْلَهَا ، عَرَفْتُ . قَالَ : فَمَا قَوْلُكَ فِي الخُلَفَاءِ ؟ قَالَ: لَسْتُ عَلَيْهِم بِوَكِيْلٍ . قَالَ : فَأَيُّهُم أَعْجَبُ إِلَيْكَ ؟ قَالَ : أَرْضَاهُم لِخَالِقِي . قَالَ: فَأَيُّهُم أَرْضَى لِلْخَالِقِ ؟ قَالَ: عِلْمُ ذَلِكَ عِنْدَهُ . قَالَ : أَبَيْتَ أَنْ تَصْدُقَنِي . قَالَ : إِنِّي لَمْ أُحِبَّ أَنْ أَكْذِبَكَ . قَالَ : فَمَا بَالُكَ لَمْ تَضْحَكْ ؟ قَالَ : لَمْ تَسْتَوِ القُلُوْبُ . قَالَ : ثُمَّ أَمَرَ الحَجَّاجُ بِاللُّؤْلُؤِ وَاليَاقُوْتِ وَالزَّبَرْجَدِ، فَجَمَعَهُ بنُ يَدَيْ سَعِيْدٍ ، فَقَالَ : إِنْ كُنْتَ جَمَعْتَهُ لِتَفْتَدِيَ بِهِ مِنْ فَزَعِ يَوْمِ القِيَامَةِ فَصَالِحٌ ، وَإِلاَّ فَفَزْعَةٌ وَاحِدَةٌ تُذْهِلُ كُلَّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ، وَلاَ خَيْرَ فِي شَيْءٍ جُمِعَ لِلدُّنْيَا إِلاَّ مَا طَابَ وَزَكَا . ثُمَّ دَعَا الحَجَّاجُ بِالعُوْدِ وَالنَّايِ ، فَلَمَّا ضُرِبَ بِالعُوْدِ وَنُفِخَ فِي النَّايِ ، بَكَى ، فَقَالَ الحَجَّاجُ : مَا يُبْكِيْكَ ؟ هُوَ اللَّهْوُ . قَالَ : بَلْ هُوَ الحُزْنُ ، أَمَّا النَّفْخُ فَذَكَّرَنِي يَوْمَ نَفْخِ الصُّوْرِ ، وَأَمَّا العُوْدُ فَشَجَرَةٌ قُطِعَتْ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ ، وَأَمَّا الأَوْتَارُ فَأَمْعَاءُ شَاةٍ يُبْعَثُ بِهَا مَعَكَ يَوْمَ القِيَامَةِ . فَقَالَ الحَجَّاجُ : وَيْلَكَ يَا سَعِيْدُ ! قَالَ : الوَيْلُ لِمَنْ زُحْزِحَ عَنِ الجَنَّةِ ، وَأُدْخِلَ النَّارُ . قَالَ : اخْتَرْ أَيَّ قِتْلَةٍ تُرِيْدُ أَنْ أَقْتُلَكَ ؟ قَالَ : اخْتَرْ لِنَفْسِكَ يَا حَجَّاجُ ، فَوَاللهِ مَا تَقْتُلُنِي قِتْلَةً ، إِلاَّ قَتَلْتُكَ قَتْلَةً فِي الآخِرَةِ . قَالَ : فَتُرِيْدُ أَنْ أَعْفُوَ عَنْكَ ؟ قَالَ : إِنْ كَانَ العَفْوُ ، فَمِنَ اللهِ ، وَأَمَّا أَنْتَ فَلاَ بَرَاءةَ لَكَ وَلاَ عُذْرَ . قَالَ : اذْهبُوا بِهِ ، فَاقْتُلُوْهُ . فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ البَابِ ، ضَحِكَ ، فَأُخْبِرَ الحَجَّاجُ بِذَلِكَ ، فَأَمَرَ بِرَدِّهِ ، فَقَالَ : مَا أَضْحَكَكَ ؟ قَالَ : عَجِبْتُ مِنْ جُرْأَتِكَ عَلَى اللهِ ، وَحِلْمِهِ عَنْكَ ! فَأَمَرَ بِالنِّطْعِ، فَبُسِطَ ، فَقَالَ : اقْتُلُوْهُ . فَقَالَ : " وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ " . قَالَ : شُدُّوا بِهِ لِغَيْرِ القِبْلَةِ . قَالَ : " فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ " . قَالَ : كُبُّوْهُ لِوَجْهِهِ . قَالَ : " مِنْهَا خَلَقْنَاكُم، وَفِيْهَا نُعِيْدُكُم " . قَالَ: اذْبَحُوْهُ . قَالَ : إِنِّي أَشْهَدُ وَأُحَاجُّ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ ، خُذْهَا مِنِّي حَتَّى تَلْقَانِي يَوْمَ القِيَامَةِ . ثُمَّ دَعَا اللهَ سَعِيْدٌ ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ لاَ تُسَلِّطْهُ عَلَى أَحَدٍ يَقْتُلُهُ بَعْدِي . فَذُبِحَ عَلَى النِّطْعِ . وَبَلَغَنَا : أَنَّ الحَجَّاجَ عَاشَ بَعْدَهُ خَمْسَ عَشَرةَ لَيْلَةً ، وَقَعَتْ فِي بَطْنِهِ الأَكِلَةُ ، فَدَعَا بِالطَّبِيْبِ لِيَنْظُرَ إِلَيْهِ ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ ، ثُمَّ دَعَا بِلَحْمٍ مُنْتِنٍ ، فَعَلَّقَهُ فِي خَيْطٍ ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي حَلْقِهِ ، فَتَرَكَهُ سَاعَةً ، ثُمَّ اسْتَخْرَجَهُ ، وَقَدْ لَزِقَ بِهِ مِنَ الدَّمِ ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَاجٍ .ا.هـ. قال الإمامُ الذهبي بعد ذكر الروايةِ : هَذِهِ حِكَايَةٌ مُنْكَرَةٌ ، غَيْرُ صَحِيْحَةٍ .ا.هـ.


والقصةُ في سندها حَفْصُ بنُ سليم أَبُو مُقَاتِلٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ . قال الذهبي في " الميزان " (1/557) : وهاه قتيبة شديداً ، وكذبهُ ابنُ مهدي لكونهِ روى عن عبيدِ الله عن نافع عن ابنِ عمر مرفوعاً : من زار قبرَ أمهِ كان كعمرةٍ . وسئل عنه إبراهيمُ بنُ طهمان فقال : خذوا عنهُ عبادتهِ وحسبكم . وذكر بعضاً من رواياتهِ .ا.هـ. وقال الحافظُ ابنُ حجر في " اللسان " (2/393) : قلتُ : ووهاهُ الدارقطني أيضاً . وقال الخليلي : مشهورٌ بالصدقِ ، غيرُ مخرجٌ في الصحيحِ ، وكان يفتي ، ولهُ في الفقهِ محلٌ ، وتعنى بجمع حديثهُ .
ولهُ ذكرٌ في العللِ التي في آخرِ الترمذي ، وأغفلهُ المزي .
قال الترمذي : حدثنا موسى بنُ حزام ، سمعتُ صالحَ بنُ عبدِ اللهِ قال : كنا عند أبي مقاتل السمرقندي ، فجعل يروي عن عونِ بنِ شداد الأحاديثَ الطوال التي كانت تروى في وصيةِ لقمان ، وقتلِ سعيدِ بنِ جبير ، وما أشبه ذلك ، فقال له ابنُ أخيه : يا عمُ لا تقل حدثنا عون ، فإنك لم تسمع هذه الأشياء ، فقال : بلى ؛ هو كلامٌ حسنٌ .ا.هـ.
وقال الإمامُ ابنُ كثيرِ في " البداية والنهاية " (9/اضغط هنا لتكبير الصوره7) : وقال أبو نعيم في كتابه الحلية ، ثنا أبو حامد بن جبلة ، ثنا محمد بن إسحاق ، ثنا محمد بن أحمد ابن أبي خلف ، ثنا شعبان ، عن سالم بن أبي حفصة ، قال : لما أتى بسعيد بن جبير إلى الحجاج قال له : أنت الشقي بن كسير؟ قال : لا ! إنما أنا سعيد بن جبير ، قال: لأقتلنك ، قال : أنا إذا كما سمتني أمي سعيداً ! قال : شقيت وشقيت أمك ، قال : الأمر ليس إليك ، ثم قال : اضربوا عنقه ، فقال : دعوني أصلي ركعتين ، قال : وجهوه إلى قبلة النصارى ، قال: " فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ " [ البقرة : اضغط هنا لتكبير الصوره5 ] قال : إني أستعيذ منك بما استعاذت به مريم ، قال : وما عاذت به ؟ قال : قالت : " إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً " [ مريم : 17 ] قال سفيان : لم يقتل بعده إلا واحداً . وفي رواية أنه قال له : لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى ، قال : لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهاً. وفي رواية : أنه لما أراد قتله قال : وجهوه إلى قبلة النصارى ، فقال : " فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ " فقال : اجلدوا به الأرض ، فقال : " مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى " [ طه : 55 ] فقال : اذبح فما أنزعه لآيات الله منذ اليوم . فقال : اللهم لا تسلطه على أحد بعدي. وقد ذكر أبو نعيم هنا كلاماً كثيراً في مقتل سعيد ابن جبير أحسنه هذا ، والله أعلم . وقد ذكرنا صفة مقتله إياه ، وقد رويت آثار غريبة في صفة مقتله ، أكثرها لا يصح .ا.هـ.


والنكارةُ في القصةِ واضحةٌ جداً ، ومن أوجهِ النكارةِ فيها :

1 - قولِ عَوْنِ بنِ أَبِي شَدَّادٍ : بَلَغَنِي . فمن الذي أبلغهُ ؟ فالواسطةُ مجهولةٌ .
2 - قصةٌ اللَّبْوَةِ وَالأَسَدِ ، فأين الأخذُ بالأسبابِ ؟
وقد جاء في ترجمةِ سعيدِ بنِ جبير أنهُ تنقل بين البلادِ فراراً من بطشِ الحجاجِ حتى قال : وَاللهِ لَقَدْ فَرَرْتُ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنَ اللهِ .

قال الإمامُ الذهبي في " السير " (4/338) معلقاً على كلامِ سعيدِ بنِ جبير : " قُلْتُ : طَالَ اخْتِفَاؤُهُ ، فَإِنَّ قِيَامَ القُرَّاءِ عَلَى الحَجَّاجِ كَانَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِيْنَ ، وَمَا ظَفِرُوا بِسَعِيْدٍ إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِيْنَ ؛ السَّنَةِ الَّتِي قَلَعَ اللهُ فِيْهَا الحَجَّاجَ .ا.هـ.
فهل يُعقلُ أن يفرَ سعيدُ بنُ جبير ثلاثَ سنواتٍ من الحجاجِ ويأخذُ بالأسبابِ ثم يأتي على أمرٍ ذكر في القصةِ ولا يفعلهُ ؟ هذا أمرٌ مستبعدٌ جداً .
3 - سؤالُ الحجاجِ لسعيدِ بن جبير عن الخليفةِ الرابعِ على بنِ أبي طالب رضي اللهُ عنه عندما قال له : فَمَا قَوْلُكَ فِي عَلِيٍّ ، فِي الجَنَّةِ هُوَ أَمْ فِي النَّارِ ؟ قَالَ : لَوْ دَخَلْتُهَا ، فَرَأَيْتُ أَهْلَهَا ، عَرَفْتُ .
يلتمسُ منهُ إثباتُ تهمةِ الحجاجِ بأنهُ ناصبي ، وهذا أمرٌ قد يكونُ من فعلِ الرافضةِ ، وقد رد الإمامُ ابنُ كثيرٍ هذه الفريةِ عن الحجاجِ في " البداية والنهاية " كما تقدم في عنوان : " الحجاجُ عذابُ اللهِ " . فليرجع إليهِ .
4 - تقديمُ العودِ والناي بين يدي سعيدِ بنِ جبير .

• هل يُلعنُ الحجاج بن يوسف :

قد يقومُ بعضُ الناسِ بلعنِ الحجاجِ بنِ يوسف كلما ورد اسمهُ عليه ، فهل هذا الفعلُ من الشرعِ في شيءٍ ؟
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ : فَلِهَذَا كَانَ أَهْل الْعِلْمِ يَخْتَارُونَ فِيمَنْ عُرِفَ بِالظُّلْمِ وَنَحْوِهِ مَعَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ لَهُ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ فِي الظَّاهِرِ - كَالْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ وَأَمْثَالِهِ - أَنَّهُمْ لَا يَلْعَنُونَ أَحَدًا مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ ؛ بَلْ يَقُولُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : " أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ " فَيَلْعَنُونَ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَامًّا . كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيهَا وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَآكِلَ ثَمَنِهَا " وَلَا يَلْعَنُونَ الْمُعَيَّنَ . كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ : " أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُدْعَى حِمَارًا وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِدُهُ . فَأُتِيَ بِهِ مَرَّةً . فَلَعَنَهُ رَجُلٌ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنْهُ . فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " . َذَلِكَ لِأَنَّ اللَّعْنَةَ مِنْ بَابِ الْوَعِيدِ وَالْوَعِيدُ الْعَامُّ لَا يُقْطَعُ بِهِ لِلشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ لِأَحَدِ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ : مِنْ تَوْبَةٍ أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ أَوْ مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ أَوْ شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ .ا.هـ.

• فتاوى أهلِ العلمِ في الحجاجِ بنِ يوسف :

الســؤال :بعض الناس عندما يتعرض لسيرة الحجاج يسبة ويلعنه، فهل ذلك يصح، علما بأنه كانت له بعض فتوحات إسلامية لأراضٍ غير إسلامية، وهل هو يعتبر من الفئة الباغية؟
الفتــوى :الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد :
فأما لعن الحجاج بن يوسف فينبغي تركه بناء على أن الفاسق المعين لا يلعن بخصوصه إما تحريماً أو تنزيها، وإذا قال قائل ألم يك ظالماً ؟ ألم يقتل الصحابة فلماذا لا نلعنه ؟ نجيبه بما قال شيخ الإسلام ابن تيمية قال : نحن إذا ذكر الظالمون كالحجاج بن يوسف وأمثاله نقول كما قال الله في القرآن "ألا لعنة الله على الظالمين" ولا نحب أن نلعن أحداً بعينه وقد لعنه-أي يزيد بن معاوية - قوم من العلماء، وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد، لكن ذلك القول أحب إلينا وأحسن... انتهى .
وأما ذكر مثالبه وظلمه وفجوره، فلا مانع من ذكر ذلك وإن كانت له حسنات وفتوحات، وقد ترجم له الذهبي فقال: الحجاج أهلكه الله في رمضان سنة 95 كهلاً، كان ظلوماً جباراً ناصبياً خبيثاً سفاكاً للدماء.... فنسبُّه ولا نحبه بل نبغضه في الله، فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان، وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه وأمره إلى الله.... انتهى.
والحجاج لم يك من الفئة الباغية، بل كان حاكماً على العراق والمشرق كله من قبل أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان. والله أعلم.
المفتـــي : مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه

السؤال:

أرجو أن تجيب على هذا السؤال فهو مهم بالنسبة لي ، فقد كنت أقرأ في صفحة معادية للإسلام على الإنترنت حيث قال أحد النصارى بأن الشيخ السجستاني قال في كتابه " المصاحف " بأن الحجاج قد غيَّر في حروف المصحف وغيَّر على الأقل عشر كلمات ، يدَّعي بأن السجستاني قد ألَّف كتاب اسمه " ما غيَّره الحجاج في مصحف عثمان " وقد ادَّعى هذا النصراني بأنَّه جمع الكلمات العشر التي تم تغييرها باللغة العربية . حاولتُ الحصول على نسخةٍ من هذا الكتاب دون جدوى فأرجو التوضيح ، فأنا لا أتخيَّل أنَّ جميع العلماء والحفَّاظ يسمحون لشخصٍ بأن يغيِّر القرآن ولا يقولوا شيئاً ، حتى ولو أن السجستاني روى هذا . هذا الأمر لا يُعقل أبداً لأننا لسنا كاليهود والنصارى لا نحفظ كتابنا ونتركه لرجال الدين ، فالمسلمون يحفظ كثير منهم القرآن وكلهم يتلوه فلا يعقل أن لا يلاحظ أحد الفروق والاختلافات .
الجواب: الحمد لله
أولاً : لا يمكن أن يتطرق الشك بالنسبة للمسلم في ثبوت القرآن ، فقد تكفَّل الله تعالى بحفظ القرآن فقال تعالى : " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " [ الحجر : 9 ] ، وقد كان القرآن محفوظاً في صدور الحفاظ من الصحابة وعلى جذوع الأشجار واللخاف ( الخزف ) إلى زمان الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وفي حروب الردة قتل كثير من حفاظ الصحابة فخشي أبو بكر- رضي الله عنه -أن يذهب القرآن ويضيع في صدور الصحابة ، فاستشار كبار الصحابة لجمع القرآن كاملا في كتابٍ واحدٍ حتى يبقى محفوظاً من الضياع ، وأوكل المهمة إلى جبل الحفظ زيد بن ثابت وغيره من كتاب الوحي فأخرج البخاري في " صحيحه " ( 4986 ) عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال : " أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر : كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! قال عمر : هذا والله خير فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر قال زيد : قال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت : كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله قال هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم } حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله تعالى عنهما ".
ثانياً : وأما الحجاج فلم يباشر بنفسه كتابة المصحف ، بل أمره بعض الحاذقين بذلك ، وإليك القصة كاملة :
قال الزرقاني : والمعروف أن المصحف العثماني لم يكن منقوطاً … وسواء أكان هذا أم ذاك فإن إعجام – أي : تنقيط - المصاحف لم يحدث على المشهور إلا في عهد عبد الملك بن مروان ، إذ رأى أن رقعة الإسلام قد اتسعت واختلط العرب بالعجم وكادت العجمة تمس سلامة اللغة وبدأ اللبس والإشكال في قراءة المصاحف يلح بالناس حتى ليشق على السواد منهم أن يهتدوا إلى التمييز بين حروف المصحف وكلماته وهي غير معجمة ، هنالك رأى بثاقب نظره أن يتقدم للإنقاذ فأمر الحجاج أن يُعنى بهذا الأمر الجلل ، وندب " الحجاج " طاعة لأمير المؤمنين رجلين يعالجان هذا المشكل هما : نصر بن عاصم الليثي ، ويحيى بن يعمر العدواني ، وكلاهما كفء قدير على ما ندب له ، إذ جمعا بين العلم والعمل والصلاح والورع والخبرة بأصول اللغة ووجوه قراءة القرآن ، وقد اشتركا أيضاً في التلمذة والأخذ عن أبي الأسود الدؤلي ، ويرحم الله هذين الشيخين فقد نجحا في هذه المحاولة وأعجما المصحف الشريف لأول مرة ونقطا جميع حروفه المتشابهة ، والتزما ألا تزيد النقط في أي حرف على ثلاث ، وشاع ذلك في الناس بعدُ فكان له أثره العظيم في إزالة الإشكال واللبس عن المصحف الشريف .
وقيل : إن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي ، وإن ابن سيرين كان له مصحف منقوط نقطه يحيى بن يعمر ، ويمكن التوفيق بين هذه الأقوال بأن أبا الأسود أول من نقط المصحف ولكن بصفة فردية ، ثم تبعه ابن سيرين ، وأن عبد الملك أول من نقط المصحف ، ولكن بصفة رسميَّة عامَّة ذاعت وشاعت بين الناس دفعاً للبس ، والإشكال عنهم في قراءة القرآن . " مناهل العرفان " ( 1 / 280 ، 281 ) .
ثالثاً : وأما ما جاء في السؤال نقلاً عن كتاب " المصاحف " لابن أبي داود : فإليك الرواية فيه والحكم عليها :
عن عبَّاد بن صهيب عن عوف بن أبي جميلة أن الحجاج بن يوسف غيّر في مصحف عثمان أحد عشر حرفاً ، قال : كانت في البقرة : 259 { لم يتسن وانظر } بغير هاء ، فغيرها " لَم يَتَسَنه " .
وكانت في المائدة : 48 { شريعة ومنهاجاً } ، فغيّرها " شِرعَةً وَمِنهاجَاً ".
وكانت في يونس : 22 { هو الذي ينشركم } ، فغيَّرها " يُسَيّرُكُم " .
وكانت في يوسف : 45 { أنا آتيكم بتأويله } ، فغيَّرها " أنا أُنَبِئُكُم بِتَأوِيلِهِ " .
وكانت في الزخرف : 32 { نحن قسمنا بينهم معايشهم } ، فغيّرها " مَعِيشَتَهُم " .
وكانت في التكوير : 24 { وما هو على الغيب بظنين } ، فغيّرها { بِضَنينٍ }… الخ ..
كتاب " المصاحف " للسجستاني ( ص 49 ) .
وهذه الرواية ضعيفة جدّاً أو موضوعة ؛ إذ فيها " عبَّاد بن صهيب " وهو متروك الحديث .
قال علي بن المديني : ذهب حديثه ، وقال البخاري والنسائي وغيرهما : متروك ، وقال ابن حبان : كان قدريّاً داعيةً ، ومع ذلك يروي أشياء إذا سمعها المبتدئ في هذه الصناعة شهد لها بالوضع ، وقال الذهبي : أحد المتروكين .
انظر " ميزان الاعتدال " للذهبي ( 4 / 28 ) .
ومتن الرواية منكر باطل ، إذ لا يعقل أن يغيِّر شيئاً من القرآن فيمشي هذا التغيير على نسخ العالم كله ، بل إن بعض من يرى أن القرآن ناقص غير كامل من غير المسلمين كالرافضة - الشيعة – أنكرها ونقد متنها : قال الخوئي – وهو من الرافضة - : هذه الدعوى تشبه هذيان المحمومين وخرافات المجانين والأطفال ، فإنّ الحجّاج واحدٌ من ولاة بني أُمية ، وهو أقصر باعاً وأصغر قدراً من أن ينال القرآن بشيءٍ ، بل هو أعجز من أن يغيّر شيئاً من الفروع الإسلامية ، فكيف يغير ما هو أساس الدين وقوام الشريعة ؟! ومن أين له القدرة والنفوذ في جميع ممالك الإسلام وغيرها مع انتشار القرآن فيها ؟ وكيف لم يذكر هذا الخطب العظيم مؤرخ في تاريخه ، ولا ناقد في نقده مع ما فيه من الأهمية ، وكثرة الدواعي إلى نقله ؟ وكيف لم يتعرض لنقله واحد من المسلمين في وقته ؟ وكيف أغضى المسلمون عن هذا العمل بعد انقضاء عهد الحجاج وانتهاء سلطته ؟ وهب أنّه تمكّن من جمع نسخ المصاحف جميعها ، ولم تشذّ عن قدرته نسخةٌ واحدةٌ من أقطار المسلمين المتباعدة ، فهل تمكّن من إزالته عن صدور المسلمين وقلوب حفظة القرآن وعددهم في ذلك الوقت لا يحصيه إلاّ الله . " البيان في تفسير القرآن " ( ص 219 ) .
وما نقله السائل عن الإمام السجستاني من أنه ألَّف كتاباً اسمه " ما غيَّره الحجاج في مصحف عثمان " : غير صحيح بل كذب ظاهر ، وكل ما هنالك أن الإمام السجستاني ترجم للرواية سالفة الذكر عن الحجاج بقوله : ( باب ما كتب الحجَّاج بن يوسف في المصحف ) . وعلى هذا فإنه لا يمكن أن يعتمد على هذا الرواية بحال من الأحوال ، ويكفي في تكذيبها أنه لم يثبت حتى الآن أن أحداً نجح في محاولة لتغيير حرف واحد ، فلو كان ما روي صحيحاً لأمكن تكراره خاصة في عصور ضعف المسلمين وشدة الكيد من أعدائهم ، بل مثل هذه الشبهات التي تثار هي أحد الأدلة على بطلان هذه الدعاوى ، وأن الأعداء قد عجزوا عن مقارعة حجج القرآن وبيانه فلجؤوا للطعن فيه . والله أعلم

dimanche 17 juillet 2011

الحجاج بن يوسف الثقفي

الحجاج بن يوسف الثقفي

فهرست

· 1 حياته المبكرة · 2 حرب مكة · 3 ولاية الحجاج على الحجاز · 4 أوج الحجاج: ولاية العراق · 5 حروب الخوارج · 6 ثورة الأشعث · 7 ولاية الوليد · 8 موت الحجاج · 9 ميراث الحجاج · 10 مذهبه في الحكم · 11 الحجاج و أهل العراق و الشام · 12 وصف تاريخي 13 الحجاج في الذاكرة
//حياته المبكرة
وُلد أبو محمد الحجاج بن يوسف بن أبي عقيل بن الحكم الثقفي في منازل ثقيف بمدينة الطائف، في عام الجماعة41هـ. و كان اسمه كليب ثم أبدله بالحجاج. و أمه الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي الصحابي الشهيد.
نشأ في
الطائف، و تعلم القرآن و الحديث و الفصاحة، ثم عمل في مطلع شبابه معلم صبيان مع أبيه، يعلم الفتية القرآن و الحديث، و يفقههم في الدين، لكنه لم يكن راضياً بعمله هذا، على الرغم من تأثيره الكبير عليه، فقد اشتهر بتعظيمه للقرآن.
كانت
الطائف تلك الأيام بين ولاية عبد الله بن الزبير، و بين ولاية الأمويين، لكن أصحاب عبد الله بن الزبير تجبروا على أهل الطائف، فقرر الحجاج الإنطلاق إلى الشام، حاضرة الخلافةالأموية المتعثرة، التي تركها مروان بن الحكم نهباً بين المتحاربين. و قد تختلف الأسباب التي دفعت الحجاج إلى اختيار الشام مكاناً ليبدأ طموحه السياسي منه رغم بعد المسافة بينها و بين الطائف، و قرب مكة إليه، لكن يُعتقد أن السبب الأكبر كراهته لولاية عبد الله بن الزبير.
و في
الشام، التحق بـ شرطة الإمارة التي كانت تعاني من مشاكل جمة، منها سوء التنظيم، و استخفاف أفراد الشرطة بالنظام، و قلة المجندين. فأبدى حماسة و انضباطاً، و سارع إلى تنبيه أولياء الأمر لكل خطأ أو خلل، و أخذ نفسه بالشدة، فقربه روح بن زنباع قائد الشرطة إليه، و رفع مكانته، و رقاه فوق أصحابه، فأخذهم بالشدة، و عاقبهم لأدنى خلل، فضبطهم، و سير أمورهم بالطاعة المطلقة لأولياء الأمر.
لمس فيه
روح بن زنباع العزيمة و القوة الماضية، فقدمه إلى الخليفةعبد الملك بن مروان، و كان داهية مقداماً، جمع الدولة الأموية و حماها من السقوط، فأسسها من جديد.
إذ أن الشرطة كانت في حالة سيئة، و قد استهون جند الإمارة عملهم فتهاونوا، فأهم أمرهم
عبد الملك بن مروان، و عندها أشار عليه روح بن زنباع بتعيين الحجاج عليهم، فلما عينه، أسرف في عقوبة المخالفين، و ضبط أمور الشرطة، فما عاد منهم تراخ، و لا لهو. إلا جماعة روح بن زنباع، فجاء الحجاج يوماً على رؤوسهم و هم يأكلون، فنهاهم عن ذلك في عملهم، لكنهم لم ينتهوا، و دعوه معهم إلى طعامهم، فأمر بهم، فحبسوا، و أحرقت سرادقهم. فشكاه روح بن زنباع إلى الخليفة، فدعا الحجاج و سأله عما حمله على فعله هذا، فقال إنما أنت من فعل يا أمير المؤمنين، فأنا يدك و سوطك، و أشار عليه بتعويض روح بن زنباع دون كسر أمره.
و كان
عبد الملك بن مروان قد قرر تسيير الجيوش لمحاربة الخارجين على الدولة، فضم الحجاج إلى الجيش الذي قاده بنفسه لحرب مصعب بن الزبير.
و لم يكن أهل
الشام يخرجون في الجيوش، فطلب الحجاج من الخليفة أن يسلطه عليهم، ففعل. فأعلن الحجاج أن أيما رجل قدر على حمل السلاح و لم يخرج معه، أمهله ثلاثاً، ثم قتله، و أحرق داره، و انتهب ماله، ثم طاف بالبيوت باحثاًً عن المتخلفين.
و بدأ الحجاج بقتل أحد المعترضين عليه، فأطاع الجميع، و خرجوا معه، بالجبر لا الإختيار.

حرب مكة في 73هـ قرر عبد الملك بن مروان التخلص من عدوه و منافسه عبد الله بن الزبير إلى الأبد، فجهز جيشاً ضخماً لمنازلة ابن الزبير في مكة، و أمر عليه الحجاج بن يوسف، فخرج بجيشه إلى الطائف، و انتظر الخليفة ليزوده بمزيد من الجيوش، فتوالت الجيوش إليه حتى تقوى تماماً، فسار إلى مكة و حاصر ابن الزبير فيها، و نصب المنجنيقات على جبل أبي قبيس و على قعيقعان و نواحي مكة كلها ، و دامت الحرب أشهراً، فتفرق على ابن الزبير أصحابه، و وقعت فيهم الهزيمة. أعلن الحجاج الأمان لمن سلم من أصحاب ابن الزبير، و أمنه هو نفسه، غير أن عبد الله بن الزبير لم يقبل أمان الحجاج، و قاتل رغم تفرق أصحابه عنه طمعاً في أمان الحجاج فقتل.
و كان لابن الزبير اثنتان و سبعون سنة، و ولايته تنوف عن ثماني سنين، و للحجاج اثنتان و ثلاثون سنة.

ولاية الحجاج على الحجاز بعد أن انتصر الحجاج في حربه على ابن الزبير، أقره عبد الملك بن مروان على ولاية مكة، و على ولاية الحجاز كله، فكرهه أهل مكة.
و كان الحجاج و أهل
مكة و المدينة على خلاف كبير، و قيل أن عبد الله بن عمر توفي في عام 74هـ، و قبل ذلك أمر أن يدفنوه ليلاً، و لا يعلموا الحجاج لئلا يصلي عليه.
و في
75 هـ حج عبد الملك بن مروان، و خطب على منبر النبي، فعزل الحجاج عن الحجاز لكثرة الشكايات فيه، و أقره على العراق.
أوج الحجاج: ولاية العراق دامت ولاية الحجاج على العراق عشرين عاماً، و فيها مات.
و كانت
العراق عراقين، البصرة و الكوفة، فنزل الحجاج بالكوفة، و كان قد أرسل من أمر الناس بالاجتماع في المسجد، ثم دخل المسجد ملثماًً بعمامة حمراء، و اعتلى المنبر فجلس و اصبعه على فمه ناظراً إلى المجتمعين في المسجد فلما ضجوا من سكوته خلع عمامته فجأة و قال خطبته المشهورة التي بدأها بقول ثمامة بن سحيل:
أنا ابن جلا و طلاع الثنايا/ متى أضع العمامة تعرفوني
ثم قال:
أما و الله فإني لأحمل الشر بثقله و أحذوه بنعله و أجزيه بمثله، أما و الله إني لأرى رؤوساً قد أينعت و حان قطافها، و إني لصاحبها، و كأنني أرى الدم بين العمائم و اللحى.
إلى آخر خطبته التي بين فيها سياسته الشديدة، و بين فيها شخصيته، كما ألقى بها الرعب في قلوب أهل
العراق.
و من العراق حكم الحجاج
الجزيرة العربية، فكانت اليمن و البحرين و الحجاز، و أيضاً خراسان من المشرق تتبعه، فقاتل الخوارج، و الثائرين على الدولة الأموية في معارك كثيرة، و كانت له الغلبة عليهم في كل الحروب.
و أمعن في الظلم و التجبر، فصادر كل الحريات، بما فيها حرية الكلام عن طريق استخباراته، و حبس الناس، و أمعن في تشريدهم و قتلهم، و منع الأعراب من الهجرة إلى المدن، و بنى
واسط، فجعلها عاصمته.
حروب الخوارج في عام 76هـ وجه الحجاج زائدة بن قدامة الثقفي لقتال شبيب الشيباني، فكانت الغلبة لشبيب. و في السنة التي تليها بعث الحجاج لحرب شبيب: عتاب بن ورقاء الرباحي، الحارث بن معاوية الثقفي، أبو الورد البصري، طهمان مولى عثمان. فاقتتلوا مع شبيب في سواد الكوفة، فقتلوا جميعاً، و عندها قرر الحجاج الخروج بنفسه، فاقتتل مع شبيب أشد القتال، و تكاثروا على شبيب فانهزم و قتلت زوجته غزالة، فهرب شبيب إلى الأهواز، و تقوى فيها، غير أن فرسه تعثر به في الماء و عليه الدروع الثقيلة فغرق. و قضى الحجاج على من بقي من أصحابه.
و في 79 أو 80 هـ قُتل
قطري بن الفجاءة رأس الخوارج، و أُتي الحجاج برأسه، بعد حرب طويلة.
ثورة الأشعث
في 80هـ ولى الحجاج عبد الرحمن بن محمد الأشعث على سجستان، فلما استقر بها خلع الحجاج، و خرج عليه، و كان ذلك ابتداء حرب طويلة بينهما. و في 81هـ قام مع الأشعث أهل البصرة، و قاتلوا الحجاج يوم عيد الأضحى، و انهزم الحجاج، فقيل كانت أربع و ثمانون وقعة في مائة يوم، ثلاث و ثمانون على الحجاج و الباقية له.
و في
82هـ استعرت الحرب بين الحجاج و ابن الأشعث، و بلغ جيش ابن الأشعث مبلغاً كبيراً من القوة و الكثرة، ثم جاءت سنة 83هـ و فيها وقعة دير الجماجم بين الحجاج و ابن الأشعث. و كانت من أكثر الوقائع هولاً في تاريخ الحجاج، و فيها كان له النصر على الثوار من أصحاب ابن الأشعث.و قُتل خلق كثير فيها، و غنم الحجاج شيئاً كثيراً.
و فيها ظفر الحجاج بكل أصحاب ابن الأشعث، بين قتيل و أسير، إلا ابن الأشعث، فقد هرب، لكن أصحاب الحجاج ظفروا به في
سجستان فقتلوه، و طيف برأسه في البلدان.
و بعد
وقعة دير الجماجم، كان هناك من حاولوا الدس للحجاج عند عبد الملك بن مروان، لكن الحجاج احتج على عبد الملك بحسن بلاغته.
ولاية الوليد مات عبد الملك بن مروان في 86هـ، و تولى ابنه الوليد بعده، فأقر الحجاج على كل ما أقره عليه أبوه، و قربه منه أكثر، فاعتمد عليه، و كان الوليد ميالاً إلى البطش بالناس و سفك الدماء، فوافقت سياسته سياسة الحجاج، و كان ذلك على كره من أخيه و ولي عهده سليمان بن عبد الملك، و ابن عمه عمر بن عبد العزيز.
و في ولاية الوليد هدد
سليمان بن عبد الملك الحجاج إذا ما تولى الحكم بعد أخيه، فرد عليه الحجاج مستخفاً مما زاد في كره سليمان له، و لمظالمه.
و إذ ذاك كان
قتيبة بن مسلم يواصل فتوحه في المشرق، فظفر بأهل طالقان و قتل منهم مقتلة لم يسمع بمثلها من قبل، و كان الحجاج من سيره إلى تلك البلاد.
موت الحجاج
مات الحجاج ليلة السابع و العشرين من رمضان عام 95هـ في الروايات المجمع عليها، و كان موت الحجاج بسرطان المعدة، و قبلها مرض مرضاً شديداً، حتى كان يشعر بالبرد و لو قربوه من النار حتى تكاد تحرق بعض ثيابه، و قيل أن الدود أكل بطنه، فأمر الوليد بن عبد الملك أن يُدعى للحجاج بالشفاء على المنابر في كل الدولة.
ترك الحجاج وصيته، و فيها قال أنه لا يعرف سوى طاعة الله و
الوليد عليها يحيا، و عليها يموت.<br و تمثل عند احتضاره بهذين البيتين:
يا رب قد حلف الأعداء و اجتهدوا/ أيمانهم أنني من ساكني النار
أيحلفون على عمياء ويحهم/ ما ظنهم بعظيم العفو غفار
و دُفن في قبر غير معروف المحلة في
واسط، فتفجع عليه الوليد، و جاء إليه الناس من كل الأمصار يعزونه في موته، و كان يقول: كان أبي يقول أن الحجاج جلدة ما بين عينيه، أما أنا فأقول أنه جلدة وجهي كله.
ميراث الحجاج
بنى الحجاج واسط، و سير الفتوح لفتح المشرق، أمر بتنقيط المصحف، خطط الدولة، و حفظ أركانها قامعاً كل الفتن.
غير أن الحجاج خلف أيضاً ميراثاً من الظلم و سفك الدماء لم يسبق له مثيل.
كما خلف في قلوب الناس، حتى
الأمويين، كرهاً له و حقداً عليه لأفعاله، و منها حرب ابن الزبير و قتله إياه في مكة، و ما فعله في وقعة دير الجماجم.
و حقد عليه
الخوارج لعظيم فعله بهم، و الشيعة لعدم احترامه آل البيت، و قالوا فيه الكثير حتى لبسوا سيرته بالخوارق، والأمور المغلوطة، و أمعنوا في تقبيحه، و النيل منه، حتى لقد صوروه شيطاناً.
أمر
الخليفةسليمان بن عبد الملك عامله على الطائف بقتل آل أبي عقيل، و هم عشيرة الحجاج الأقربون، ظلماً، لأنهم من آله.
ثم أمر
عمر بن عبد العزيز بنفي من بقي منهم و تشريدهم جزاء لأفعال الحجاج، و انتقاماً منه بعد موته.
و لم يُنس الحجاج و أفعاله بسهولة، فقيل أن رجلاً حلف بالطلاق أن الحجاج في النار، فلما أتى امرأته امتنعت عنه، فسأل
الحسن البصري أن يفتيه في أمره فقال له: إذا لم يكن الحجاج من أهل النار، فما يضيرك أن تكون مع امرأتك على زنى.
كذلك أمر
سليمان بن عبد الملك بذم الحجاج و سبه على المنابر، فذمه كل الولاة إلا خالد بن عبد الله القسري، فأرسل إليه سليمان يأمره بذلك، فتكلم على المنبر و قال: إن إبليس كان من الملائكة ففسق، و كذلك الحجاج.
و بقي ميراث الحجاج حياً إلى الآن، فلا يزال موضع حرب و تطاحن بين المختلفين، و لا تزال الأخبار المختلقة تخالط سيرته، و لا زال يُلعن، و يُسب.
و يراه الباحثون في التاريخ السياسي نموذجاً للطاغية الظالم سفاك الدماء، و يرى المؤرخون في هذا أنه كان يتشبه بـ
زياد بن أبيه في حزمه، فأبار و أهلك.
مذهبه في الحكم
كان الحجاج يرى بتكفير الخارج على السلطان، و طرده من الملة، و في ذلك قال لـ قطري بن الفجاءة في رسالة أرسلها له:
"فإنك قد مرقت من الدين مروق السهم من الرمية"
و قيل بعد موته أن رجلاً رفض الصلاة خلف إمامه، و قال ما أصلي خلف خارجي، فقال له أحد أئمة البصرة: إنما تصلي لله ليس له، و إنما كنا نصلي خلف الحروري الأزرقي.
قال: و من ذاك؟
قال: الحجاج بن يوسف، فإنك إن خالفته سماك كافراً و أخرجك من الملة، فذاك مذهب الحرورية الأزارقة. و بالغ الحجاج في شأن الطاعة، و قمع همم الناس، و نفوسهم، و غاياتهم، فوافق الأمويين في أعمالهم، و أذهب بين الناس أن الخلافة اصطفاء من الله، فلا يجوز الخروج على السلطان، و أما من خرج فقد حل دمه، و سُمي كافراً.
و شاع مذهب الحجاج في تكفير الخارج على السلطان بعده شيوعاً كبيراً، و كان قد ابتدأ قبله، لكنه ثبته. و ثبت فكرة الإصطفاء، و الحق الإلهي، و بالغ في تعظيم السلطان.

الحجاج و أهل العراق و الشام العلاقة بين الحجاج و أهل العراق هي من أكثر العلاقات تعقيداً و طرافة، و من أكثرها ترويعاً في التاريخ الإسلامي، فالحجاج وُلي على العراق كارهاً لأهلها، و هُم له كارهون، و استمرت العلاقة بينهم كزواج كاثوليكي بالإجبار، لا يجوز فيه الطلاق، و لا أمل للفكاك منه إلا بموت أحد الزوجين.
و كان الحجاج دائم السب لأهل
العراق في خطبه، فكثيرة خطبه التي يذكر فيها أهل العراق بشكل سيئ، و التي يرى فيها العراقيون إساءة إلى اليوم.
فدائماً كان يذكرهم:
"يا أهل العراق، يا أهل الشقاق و النفاق...." إلى آخر خطبه، و التي يمعن فيها في ذكر صفاتهم:
"فإنكم قد اضجعتم في مراقد الضلالة..." ، و غير ذلك من الخطب الكثيرة فيهم، كراهة منه لهم، و كراهة منه لهم.
و من ذلك أنه لما أراد الحج استخلف ابنه محمد عليهم، و خطب فيهم أنه أوصى ولده بهم بغير وصية
الرسول في الأنصار، أن يقبل من محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم، فقد أوصاه ألا يقبل من محسنهم، و لا يتجاوز عن مسيئهم، و قال لهم: أعلم أنكم تقولون مقالة لا يمنعكم من إظهارها إلا خوفكم لي، لا أحسن الله لك الصحابة، و أرد عليكم: لا أحسن الله عليكم الخلافة.
و أنهم شمتوا به يوم فُجع بولده محمد، و أخيه محمد في نفس اليوم، فخطب فيهم متوعداً إياهم.
و من ذلك أنه مرض فشاع بين الناس موته، فخرج أهل
العراق محتفلين بموته، غير أنه قام من مرضه ليخطب فيهم خطبة قال فيها: "و هل أرجو الخير كله إلا بعد الموت"
أما أهل
الشام فكانوا أكثر الناس محبة للحجاج، و أكثرهم نصرة له، و بكاء عليه بعد مماته، و قيل أنهم كانوا يقفون على قبره فيقولون رحم الله أبا محمد.
و كان الحجاج محباً له، دائم الإشادة بخصالهم، و الرفع من مكانتهم، و كان كثير الاستنصار بهم، و معظم جيشه كان منهم، و كان رفيقاً بهم.

وصف تاريخي
كان الحجاج بن يوسف بليغاً فصيحاً، محباً للشعر كثير الاستشهاد به، تقياً، مُعظماً للقرآن و آياته، كريماً، شجاعاً، و له مقحمات عظام و أخبار مهولة.
كان أخفش العينين، أضفعت بصره كثرة النظر في الدفاتر، كان يتزيا بزي الشطار، فيرجل شعره و يخضب أطرافه.
و كان يصعد على المنبر فيتكلم بكلام الملائكة، و ينزل فيفعل فعل الشياطين.

الحجاج في الذاكرة
كان للحجاج الكثير من المواقف، و الحكايات الشهيرة، و الأقوال الفصيحة، و الرسائل، و الخطب، و التوقيعات، و له مجموعة أشعار متفرقة.
فقصص الحجاج و أخباره كثيرة جداً، و موجودة في كتب التاريخ، ما يدل على عظم نفوذه، و لا زالت أقواله باقية إلى اليوم، و مذهبه في الحكم باق إلى اليوم.
و قيلت فيه الكثير من الأبيات بعد موته، و التي تذمه، كما قيل في حياته.
كما دخل الحجاج في القصص الشعبي، و المخيلة الشعبية، فظهر جشعاً طماعاً خاطف نساء في حكايات
ألف ليلة و ليلة، كما صورته المخيلة الشعبية أعور، أعرج، أغن الصوت.
و من ذلك ما قيل في حكاية مولده، فقد قيل أن أمه ولدته مشوهاً لا دبر له فثقب له دبر و أبى أن يقبل ثدي أمه و لا غيرها فيقال أن
الشيطان تصور لهم في صورة الحارث بن كلدة، و كان قد تزوج الفارعة قبل أبي الحجاج، و كان حكيم العرب فقال لهم: ألعقوه دم جدي يومين، و اليوم الثالث ألعقوه دم تيس أسود، ثم دم ثعبان سالخ أسود، و أطلو وجهه، و أخبرهم أنه يقبل الثدي في اليوم الرابع.